عالم آخر غريب
يتقلب يمينًا.. يسارًا.. يرفع الغطاء.. يخفضه مرة أخرى.. يحاول أن يغمض عينيه.. لا فائدة.. لا يستطيع أن يقاوم ذلك الصارخ من داخله!
استجاب بعد مقاومة، وأخرج هاتفه المحمول المدفون تحت وسادته، وفتح (الفيس بوك) ليتابع الإعجابات على منشوره الأخير الذي كتبه للتو منذ خمس دقائق!
إعجابان فقط؟! دعني أرى مَن هذان.. ليسا مشهورَين! يا للأسى! فلينم الآن ولينظر صباحًا.. بالتأكيد سيكون الوضع أفضل.
أحلامه كالعادة لا تخلو من العالم الأزرق الذي يسبح فيه، فإذا أعجبه شيء ضغط إعجاب، وإذا تضايق من أحد قام بحظره!
كيف تبدو هذه الأمور لو تمثَّلت محسوسة؟! لا يدري، ولكنه يشعر بها محسوسة في حُلمه، ولا يستطيع وصفها..
يبدأ يومٌ جديد..
إعجاب هنا.. تعليق هناك.. مشاركات في بعض المجموعات.. يمسح العرق عن جبينه..
مَن هذا الذي سوَّلت له نفسه أن ينتقده؟! يفتح صفحته.. لقد هزلت "حتى بدا من هزالها كلاها و..."! مَن هذا الفقير مِن المتابعين لينتقد؟! حظر مباشرة.. يلهث.. يتوقف قليلاً ليلتقط أنفاسه ثم يواصل.. صحيح؛ لقد نسي أن يضع حالة "متعب" ويراقب تعليقات المتابعين على تعبه ويشكرهم على تقديرهم لتعبه.. نعم هو مشغول بأمور كثيرة، لكن عليه ألا يغفل عن متابعة معجبيه.
كتب منشورًا بالأمس عن نظافة الشوارع حاز مئات الإعجابات، التي أخذت تتسرب في دمه محدثة تلك النشوة التي تطورت مع مرور الأيام حتى صار يشعر بها في أطراف أصابع رجليه!
ارتدى ملابسه واستعد للذهاب للعمل.. تلك اللحظات العصيبة التي يكون فيها في المصعد حيث لا شبكة اتصال للهاتف.. خرج من المصعد كخارج من القبر ينفض الغبار عن بدنه، ويلتقط أنفاسه، ويعود إلى عالمه الأزرق غير ملتفت إلى الطريق.. لا يهم فقد اعتاد على ذلك..
ولكن اليوم هناك شيء مختلف يستحق منه أن يقتطع من وقت الفيس بوك لينظر إليه.. الشارع مختلف فعلاً!
الشارع كأنه لوحة فنان أنهاها لتوِّه.. لا ورقة في الشارع.. لا ذرة تراب على الرصيف.. قام بعمل "إنعاش" لعينيه ربما يرى أفضل، ولكن ظلت الصورة كما هي!
رأى عامل نظافة.. لو سمحت لو سمحت.. ماذا حدث اليوم؟ هل أنا في حلم؟!
فغر عامل النظافة فاه وقال له بعد شهقة مفجعة: حضرتك أستاذ فلان على الفيس بوك؟! أنا من أشد المعجبين بحضرتك!
سرى تيار كهربائي منعش في عموده الفقري، وتمالك نفسه عن أن يرقص في قارعة الطريق.. ابتلع لعابه في صعوبة ليخفي فرحته، وحاول أن يكسو صوته بقشرة من الوقار خرجت مضطربة وهو يقول: شكرًا وأهلاً بواحد من مئات المعجبين الذين يستوقفونني في الشوارع حتى أكاد.... عذرًا! ما الذي حدث في الشوارع؟!
أجابه الرجل: بعد منشور حضرتك الذي كتبته اليوم نزل الجميع من بيوتهم وتركوا أعمالهم استجابة لندائك..
خرج عن الوعي للحظة، ثم عاد ليجد الرجل قد انصرف من أمامه، مرت سيارة بجواره، فأبطأت من سرعتها، وأخرج سائقها رأسه من نافذتها.. نعم كما تتوقعون.. حياه وشكره على توجيهه لجماهيره للاهتمام بنظافة الشوارع..
لقد تغيّر الشارع بسبب منشور!
جلس يفكر مع نفسه: هل هو في حلم؟! أم أن هذا أحد مقالب أصدقائه السمجين؟! ولكن كيف يُدبَّر مثل هذا المقلب؟! أم أنها مجرد مصادفة؟! الحل في تجربة شيء جديد..
ماذا يكتب؟ ماذا يكتب؟ يريد شيئًا عامًا يرى أثره في الشارع.. نعم، سيكتب عن أطفال الشوارع..
قضى ليلة تختلط فيها الإعجابات بالمشاركات في أحلام مزعجة، وفي اليوم التالي نزل إلى الشارع.. نفس النتيجة! لا أطفال شوارع.. طابور من الأطفال في ملابس نظيفة يمسك كل منهم بوردة جميلة يحيونه.. مَن هؤلاء؟! في نفس واحد: كنا بالأمس أطفال شوارع.. شكرًا يا "عمّو"!
هي حقيقة إذن! كلماته يتلقفها الناس ويسارعون في تنفيذها.. شيء عجيب!
احم.. ولماذا عجيب؟! شد عضلات ظهره ورقبته في اعتداد، وقال لنفسه: شيء طبيعي! منشوراتي واسعة الأثر.. أعلم ذلك منذ زمن، فلماذا التعجب؟!
وكان يومه التالي بداية حياته الجديدة.. لقد بدأ في صناعة العالم الذي يريد، ما يكاد يكتب منشورًا حتى تبدأ الدنيا في التغيُّر من حوله، لا مفر بالتأكيد مِن بعض مَن يشغلون وقته بالثناء عليه وعلى إنجازاته ومدى تأثيره، ولكن ماذا يفعل؟! إنها ضريبة الشهرة..!
بدأ يَسبح في عالمه أمام شاشة الحاسب أحيانًا وأمام شاشة الهاتف أحيانًا أخرى من باب التنويع، ولو أمكنه أن يسبح فيه من خلال أواني الطعام ووسادة النوم وحوض الحمام لفعل.. ذكِّروه أن يحث المخترعين على ابتكار هذا الأمر في أحد منشوراته القادمة..
ولكن كما تعلمون -وكما يعلم هو أيضًا- أن لكل نجاح أعداء، وكم يُبغض أعداء النجاح ويتمنى أن يكون هناك خاصية مقابلة للإعجاب ليضغط عليها إذا خطروا بباله.
بدأ البعض يهاجمه في منشوراته، فسلَّ سيف "الحظر" وانطلق به، إلى أن انفعل ذات مرة فمد يده في غمرة غضبه إلى الشاشة، فاخترقتها لتدهس هذا المعترض عليه، ويسيل دمه على حائطه!
وسط اندهاشه قام بمسح المنشور سريعًا، ثم تابع صفحة ذلك الشخص.. لقد توقف عن المشاركة بالفعل..! هل مات فعلاً؟!
لقد صار العالم الأزرق حقيقيًا!
احم.. ما هذا الهراء الذي يقوله؟! ألم يكن حقيقيًا من قبل؟!
منذ ذلك اليوم صار لا يرحم معارضيه.. هم لا يستحقون الرحمة فعلاً، وسحقهم خير لهذا المجتمع الذي يصنعه الآن بمنشوراته.. لا مكان لأعداء النجاح في مجتمعي الجديد!
بدأت مملكته تكتمل أمام عينيه.. لم ينس بالطبع أن ينشئ جيشًا لحمايته، وصحفًا تسبح بحمده، وقنوات لا تتحدث صباحًا ومساءً إلا عن إنجازاته.. أحلامه تتحقق بضغطة زر، وأعداؤه يُسحقون.. ضحكة عميقة متقطعة!
أحسَّ ذات يوم بثقل في تحميل بعض الصفحات، وبعض التعثُّر في نشر أي منشور جديد.. لقد بدأت الحرب والخيانة!
حملة "إبلاغات" عنه تسببت في إصابة حسابه بشلل جزئي.. تبًا لهم ثم تبًا لهم!
ثارت ثائرته، ولم ينس أن يعبر عنها بحالة "غاضب" على الفيس بوك حازت على عدد كبير من الإعجابات، وبدأ في تحريك جيوشه لمقاومة المتمردين.
استمرت المعركة عدة أيام، وبدأ يشعر بآثارها أثناء مشيه في الشوارع.. ذات مرة وجد أحد الناس ينظر إليه نظرة لم ترق له.. ما هذه النظرة؟ لابد أنه من المتمردين! صرخ في وجهه: كفوا عن تمردكم.. ستخربون إنجازي الجميل! ثم ضغط "إدخال" بعنف.. نظر إليه الرجل في تشكُّك، التفت ومشى مسرعًا.. جيد، لقد ردعته الصرخة وآوى إلى جحره البغيض!
ولكن حركة التمرد استمرت في الصعود، وصار يتشكك في كل من يمشي حوله في الشارع ومن يقابله في عمله.. الحل الأمثل هذه الفترة ألا يخرج من بيته حتى لا يتعرض مُلهم العالم الأزرق لأي شيء قد يدمر مستقبل المجتمع!
حبس نفسه في بيته، إلا أن الحصار امتد إلى غرفته.. فراشه.. حتى دورة المياه..
لقد ظل يقاوم حتى آخر لحظة إلى أن بدأت أيادي المتمردين تخرج من شاشته تحاول النيل منه.. كان يدفعها بقوة، ولكنها تأبى إلا أن تمسك برقبته..
استمرت المعركة، وتعددت الأيدي، وصار لا يتمكن من مقاومتها مجتمعة.. ذات يوم أمسكت رقبته بعنف.. أخذ يصرخ دافعًا إياها:
دعوني.. يا أعداء النجاح..
سأقوم بإلغاء صداقتي معكم.. دعوني.. سأحظركم..
سأموت.. لاااااااا!
حشرجة عميقة متقطعة..!
0 التعليقات: