بين البيض والسود في أرض العنصرية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
ففي عام 1957م أمر الرئيس الرابع والثلاثون للولايات المتحدة الأمريكية "دوايت أيزنهاور" الفرقةَ العسكريةَ الشهيرة (101) باحتلال ولاية أركنساس إحدى الولايات الجنوبية، وأمر بحلِّ جيشها البالغ عشرة آلاف مقاتل في حادثة عجيبة السبب فريدة من نوعها.
وكان حريٌّ بالأمريكيين أن يهتموا بتحليل هذه الحادثة وتسليط الأضواء عليها؛ لأنها ألقت الضوء على هذا الجرح العميق والداء المستفحل في الشعب الأمريكي، والذي يسري في عروق أفراد هذا الشعب العنصري على الرغم من تشدُّقهم الدائم بمراعاة حقوق الإنسان، كان الأولى بهم أن يسلطوا الأضواء على هذه الحادثة وما شابهها للبحث عن علاج لهذا الداء المتسرطن بدلاً من دفن المريض لكبت صراخه وإسكات عويله.
لقد كان هذا الإجراء من الرئيس الأمريكي نظرًا لأن حاكم الولاية رفض دخول السود مدارس البيض، ولمَّا حكمت المحكمة الاتحادية ببطلان هذا الإجراء اعترض على حكم المحكمة، بل تمرد عليه استجابةً للجو العام والضغط الشعبي من سكان ولايته من البيض، حتى أنه أعلن أن قرار الاختلاط بين البيض والسود في ولايته سيؤدي إلى إشعال الفتنة وإراقة الدماء في الولاية.
ولم يكن هذا الإجراء الذي أخذه رئيس الولايات المتحدة آنذاك من أجل عيون السود أو في سبيل المساواة المزعومة؛ بل ما دفعه إلى ذلك إلا هذا التهكم الذي لاقاه السياسيُّون في الولايات المتحدة من العالم الشيوعي آنذاك متمثلاً في الإتحاد السوفيتي، والذي وضع هذا الحدث في قائمة الأدلة الواقعية على أن حقوق الإنسان في الولايات المتحدة مُهدَرة لا قيمة لها.
ولكن الشعب الذي تسري العنصرية الجاهلية في عروقه -وبرغم هذا الإجراء العسكري الصارم- لم يتقبَّل هذا الأمر، واضطرَّت الولاية إلى وضع فترة انتقالية مدتها خمس سنوات ليبدأ قرار الاختلاط بين البيض والسود في رياض الأطفال عام 1963م.
لم يكن هذا الحدث العجيب الذي يدل على التخلف -والبدائية باصطلاح الغربيين- بالأول ولا بالأخير؛ فمنذ وطأت أقدام العبيد الأفارقة أرض العنصرية أمريكا عام 1619م وهم يعانون من هذا الاضطهاد العنصري، ثم عانى نسلهم الذي صار يمثل الآن ما يقارب 13% من تعداد الأمريكيين من الاضطهاد أيضًا؛ لمجرد أن الله خلقهم بلون آخر!
ولم تكن الجملة التي صدَّر بها "توماس جفرسون" بيان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية عام 1776م في عهد "جورج واشنطن" -وهي أن الناس جميعًا خلقوا سواسية- من باب مهاجمة هذه العنصرية، أو محاولة ضبط همجيَّة هذا الشعب العنصري المتخلف؛ وإنما كانت احتجاجًا على نبرة عنصرية سادت في هذه الآونة تضرب على وتر التفريق بين الرجل الأبيض في المستعمرات الأمريكية والرجل الأبيض في موطنه الأم، فكانت هذه الجملة للتأكيد على المساواة بين الرجلين، أما المساواة بين البشر بمعنى عدم التفريق على حسب اللون فلم يكن يخطر ببال هؤلاء آنذاك.
وبالرغم من ارتفاع نسبة السود في الولايات المتحدة بما يزيد عن كثير من الأقليات في الدول الإسلامية، والتي لا تكلُّ الولايات المتحدة ولا تملُّ من الضغط على الحكومات لتحقيق المساواة فضلاً عن تفضيلهم؛ إلا أن الاضطهاد والفصل العنصري وجد مكانه في وقت من الأوقات في التشريعات الدستورية، وما زالت مظاهره في الشوارع والمدارس والمصحَّات:
ففي السجون والمؤسسات الإصلاحية: كان يتم التفريق بين البيض والسود؛ حيث جاء في دستور ولاية ميسيسبي: (الفصل العاشر، في الإصلاحيات والسجون، الفقرة 225): "للمجلس التشريعي أن يهيئ الأسباب المؤدية إلى فصل المساجين البيض عن المساجين السود بقدر الطاقة والإمكان"، وهذا الفصل بين البيض والسود كان إلزاميًّا في السجون والمؤسسات الإصلاحية في إحدى عشرة ولاية من الولايات المتحدة.
ثم إن التعامل مع الجنائيين السود يختلف كثيرًا عن التعامل مع أمثالهم من البيض، ومن الشواهد على ذلك ما حدث في لوس أنجلوس عام 1991م، حيث اندلعت أسوأ موجة عنف في تاريخ الولاية، بل يرى بعض السياسيين أنها الأسوأ في الولايات المتحدة كلها منذ الستينيات، وكان السبب في ذلك اعتداء ضباط الشرطة على الأمريكي الأسود "رودني كنغ" وقيامهم بتصويره أثناء ذلك، حتى أن الرئيس الأمريكي "جورج بوش" الأب اضطر خجلاً أن يعترف بفظاعة ما حدث عندما شاهد تسجيلاً له، وقد تكررت وقائع مشابهة في عهد "بيل كلينتون" في سنسناتي ونيويورك.
وفي التعليم: جاء في دستور ولاية ميسيسبي: (الفصل الثامن: في التربية والتعليم، الفقرة 207): "يُراعى في هذا الحقل أن يُفصل أطفال البيض عن أطفال الزنوج، فتكون لكل فريق مدارسه الخاصة".
وجاء في وثيقة (نداء إلى العالم) التي قدمتها (الجمعية الوطنية لترقية الشعب الملون) للأمم المتحدة عام 1947م: "وفي عشرين ولاية من ولايات البلاد يُفصل ما بين الطلبة البيض والطلبة السود في المدارس فصلاً إلزاميًّا، أما ولاية فلوريدا فتقضي قوانينها بأن تخزن الكتب المدرسية الخاصة بالطلاب الزنوج بمعزل عن الكتب الخاصة بالطلاب البيض".
وفي الأحوال الشخصية: جاء في دستور ولاية ميسيسبي: (الفصل الرابع عشر، أحكام عامة، الفقرة 263): "إن زواج شخص أبيض من شخص زنجي أو خلاسي أو من شخص ثـُمن الدم الذي في عروقه دم زنجي يُعتبر غير شرعي وباطلاً".
وقد ورد في وثيقة (نداء إلى العالم) المشار إليها آنفًا أن هناك ولايات تحرم التزاوج بين البيض والسود، وهي: كاليفورنيا، وكولورادو، وإيداهو، وانديانا، ونبراسكا، ونيفادا، وأوريغون، وأوته.
أما في المصحَّات والتفريق بين البيض والسود فيما ينالون من عناية صحية: فثمة قوانين تقضي بالفصل ما بين المرضى البيض والمرضى السود في المستشفيات، وفي إحدى عشرة ولاية كان يُفصل ما بين المصابين بالأمراض العقلية على أساس اللون والعرق أيضًا.
وقالت "ميليسا هاريس لاسويل" أستاذة العلوم السياسية بجامعة برينستون أن عددًا غير متناسب من الأمريكيين السود يفتقرون إلى التأمين الصحي، وكشفت إحصائية حديثة النقاب عن تضاعف معدلات الوفيات بين الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية بنحو الضعف في مرحلة منتصف العمر مقارنة بأقرانهم من البيض؛ بسبب اتساع فجوة الرعاية الصحية بين الجانبين وتدني الدخل.
أما في الحياة العامة:
ففي وسائل المواصلات يفرض القانون عزل ركاب القطر الحديدية البيض عن ركابها السود في أربع عشرة ولاية، أما في سيارات الأتوبيس فالعزل مطلوب في إحدى عشرة ولاية.
وفي أوكلاهوما تم إنشاء غرف تليفونية مستقلة للزنوج، وفي تكساس يحظر على المصارعين البيض أن ينازلوا المصارعين السود، وفي كارولينا الجنوبية لا يُسمح للعمال الزنوج والبيض بأن يقيموا على صعيد واحد في مصانع النسيج القطني، ولا يجوز للزنوج أن يدخلوا أو يخرجوا من الأبواب عينها التي يدخل منها البيض ويخرجون.
وقد نشر أحدهم في موسوعة ويكيبيديا (Wikipedia) العالمية صورة تم التقاطها عام 1939م لرجل أسود يشرب من مبرد مياه مكتوب عليه (ملون colored)؛ حيث كان يفرق بينهم حتى في مبرِّدات المياه والأكواب، ولعل الرجل الأبيض يرضى أن يشرب كلبه من كوبه ولا يشرب منه رجل أسود لمجرد أن نسبة (الميلانين) التي تحدِّد لون البشرة أعلى عند هذا الرجل الأسود من قرينه الأبيض!
وفي بيان صدر عام 2009م قالت جمعية (Urban League) المعنية بحقوق الأمريكيين من أصول أفريقية في الولايات المتحدة أن الفجوتين الاجتماعية والاقتصادية بين السود والبيض تتسع رغم الأجواء المريحة التي أدت إلى انتخاب "باراك أوباما" كأول رئيس أسود للبلاد.
كما أكدت الجمعية في تقريرها السنوي أن نسبة السود العاطلين عن العمل هي ضعف نسبة البيض، كما أن نسبة من يعيشون في الفقر هي ثلاثة أضعاف نسبة البيض.
ففي عام 2007م على سبيل المثال أثبتت الإحصائيات أن متوسط الدخل للأسرة البيضاء يبلغ 64427 دولارًا، أما بالنسبة للأسرة السوداء فيقل بأكثر من الثلث عن هذا المبلغ ليصل إلى 40143 دولارًا، وذلك طبقًا لبيانات من مكتب الإحصاء الأمريكي لعام 2007م.
ولقد تعدَّت هذه الحيوانية العنصرية إلى سلب السود حق الاعتراض على هذه الأوضاع التي تخالف العقل والفطرة، أو حتى محاولة إصلاحها، فقد جاء في دستور ولاية ميسيسبي: "كل من يطبع أو ينشر أو يوزع منشورات مطبوعة، أو مضروبة على الآلة الكاتبة، أو مخطوطة باليد، تحض الجمهور على إقرار المساواة الاجتماعية، والتزاوج بين البيض والسود، أو تُقدِّم إليه حججًا واقتراحات في هذا السبيل؛ يعتبر عملُه قباحةً يعاقب عليها القانون، ويحكم عليه بغرامة لا تتجاوز خمسمائة دولار، أو بالسجن مدة لا تتجاوز ستة أشهر، أو بالعقوبتين معًا".
وإن كان دستور ولاية ميسيسيبي قد ركَّز على هذه القضية وأولاها اهتمامًا كما هو واضح فيما نقلنا في ثنايا المقال؛ إلا أن هذا الأمر ليس بمقتصر على هذه الولاية فقط كما قد يظن البعض، ففي وثيقة (نداء إلى العالم) المشار إليها آنفًا ذُكر أن تشريعات مماثلة لتشريعات ولاية ميسيسبي تُطبق في: فريجينيا ، وكارولينا الشمالية، وكارولينا الجنوبية، وجورجيا، والأباما، وفلوريدا، ولويزيانا، وآركانساس، وأوكلاهوما، وتكساس، ومثل تلك التشريعات -ولكنها أقل قسوة- تطبق في ديلاوار، وفرجينيا الغربية، وكنتاكي، وتنيسي، وميزوري، وهذا حتى عام 1947م.
وإن كانت بعض هذه القوانين قد أُلغيت تحت ضغط منظمات حقوق الإنسان؛ إلا أن هذا الإلغاء وإن أزال رسمها من الدساتير فإنه لم يؤثر في إزالة العنصرية المترسخة في هذه النفوس، وأوضح دليل على ذلك تلك الممارسات العنصرية التي ما زالت تملأ الشارع الأمريكي وتشهد عليها الإحصائيات والدراسات الحديثة، ثم الطبيعة التي تقبل بمثل هذه القوانين غير الآدمية وتنافح عنها -بينما يجتاز التاريخ بخطواته القرن العشرين- من الصعوبة بمكان أن تُستأصل منها جذور هذه الشجرة الخبيثة بمجرد إلغاء لقانون أو دستور بأكمله.
ومن عجيب القول أن تسمع من يذكر من مآثر مغني البوب "مايكل جاكسون" المتوفى عام 2009م ما قام به من دور في التقريب بين البيض والسود باعتبار أنه أسود في الأصل، وتغافل هؤلاء أن مايكل جاكسون كانت تطارده عقدة لونه الأسود، مما اضطره لعمليات التجميل العجيبة التي حولته إلى مسخ أبيض تقبله نفسه ويقبله المجتمع.
وإن أراد البعض استغلال تولِّي (باراك أوباما) رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية ابن الرجل الأسود الكيني في محاولة الدفاع وإثبات أن عنصرية اللون في أمريكا قد ذهبت بلا رجعة؛ إلا أنه بنظرة أكثر شمولاً يتضح لمن يقرأ ما بين السطور أن هذا الحدث علامة على أن المجتمع الأمريكي ما زال يزرح تحت أغلال هذه العنصرية، وحتى عام 2009م.
فمجرد تصويت السود لصالح (أوباما) بأغلبية كاسحة يوحي بمدى الاضطهاد الذي يشعر به السود، حتى أن لون المرشَّح في الرئاسة يؤثر في اختيارهم إياه، ثم تعليلهم لذلك بأنهم يريدون معالجة التفاوت في الرعاية الصحية والدخل والعدالة والتعليم -كما صرحت بذلك عدد من وسائل الإعلام- يأتي مؤكدًا أن الحكومة الأمريكية لم تنجح في تقريب المسافات وعلاج هذه المشكلة وحتى هذه اللحظة، بما فيهم "بوش الابن" رافع عَلَم نشر الديمقراطية الأمريكية بالقوة في العالم، ولم تعالجه أيضًا سياسات من قبله من الرؤساء البيض.
وسرعان ما تظهر العنصرية المتأصِّلة مرة أخرى على الأفعال، فقد صدر كتاب بعنوان: "في الخدمة السرية للرئيس" لمؤلفه "رونالد كيسلر" أماط فيه اللثام عن تلقي الرئيس الأمريكي "أوباما" أكثر من ثلاثين تهديدًا بالقتل يوميًّا، وأنه يخضع لحماية جهاز مخابرات خاص ضعيف الموارد، وقال: "لقد زادت التهديدات الموجهة ضد أوباما بمعدل 400% من ثلاثة آلاف تهديد في العام أو نحوه في عهد الرئيس السابق جورج بوش".
وذكرت صحيفة "التليجراف" أنه تم الكشف عن بعض تلك التهديدات على أوباما -الذي يطلق عليه جهاز مخابراته اسمًا حركيًّا هو "المرتد"-، ومنها مؤامرة أعدها عنصريُّون بيض في ولاية "تينسي" لسرقة متجر أسلحة, وإعدام ثمانية وثمانين مواطنـًا أسود رميًا بالرصاص، وضرب أعناق أربعة عشر آخرين، ثم اغتيال أوباما الذي يعد أول رئيس أسود في التاريخ الأمريكي.
وأشارت الصحيفة إلى أنه قد أحاط جهاز مخابرات الرئيس أغلب تلك التهديدات بسياج من السرية خوفـًا من أن يؤدي الإعلان عنها إلى زيادة في أعداد من قد يفكرون في تقليدها، رغم أن معظم التهديدات يصعب تصديقها لكن يتم فحصها كلها بدقة.
فمظاهر العنصرية التي تطفو على السطح مرة أخرى تدل على أن القيم الأخلاقية وحقوق الإنسان المزعومة وغيرها من الكلمات الرنانة شعارات سرعان ما تُنسى، وما ذاك إلا لأنها لم تقم على عقيدة وإيمان بالله تبارك وتعالى.
ولذا فإن العقيدة الإسلامية وتقرير نبي الإسلام محمد -صلى الله عليه وسلم- أنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى مما يبهر العقول، ويقف عنده مَن قد تبقت فيهم آثار للآدمية ممن نشأ وسط هذا الجو المتخلف من العنصرية البغيضة.
وحريٌّ بنا أن نقف مع مظاهر رقي الشريعة الإسلامية في المساواة بين الناس وعدم التفريق بينهم على أساس جنس أو لون؛ حمدًا لله -تبارك وتعالى- وشكرًا له على نعمة الإسلام، ولتكون زادًا لنا في دعوة هؤلاء الذين غرقوا في لجج الحيوانية وشقوا في ظلمات العصبية الجاهلية، لعلنا نكون أسبابًا في هدايتهم إلى طريق النور، (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة:213).
نسأل الله أن يرزقنا علمًا نافعًا ورزقًا طيبًا وعملاً متقبلاً.
0 التعليقات: