رحلة الستة قرون
-2-
لحظة صمت
قلَّب الشيخ صفحة من صفحات ذلك السِّفر الضخم.. بينما ظلت عينا جليسه على وجهه لا تفارقانه..
قطعتْ لحظةُ صمتٍ صوتَه الذي لم يزل يترنَّم ببطولاتِ هؤلاء القادة العظام.. تلك البطولات التي دُفن ذكرُها في أكثر كتب التاريخ تحت أكوام وأكوام من التشويه والتقبيح:
عثمان بن أرطغرل..
أورخان بن عثمان..
مراد الأول والثاني..
بايزيد الأول والثاني..
سليم الأول..
سليمان القانوني..
خير الدين بربروسة..
حسن آغا الطوشي..
أسمعتَ بهم من قبل؟!
إن كنتَ مثلي قبل رحلتي في رحاب الدولة العثمانية.. وإن كنتَ كأغلب الناس –لم تسمع عن هؤلاء العظام- فحالُك حالُ ذلك الجليس..
كان يسمع تلك الأسماء لأوَّل مرة.. ويتعجَّب..
كيف لم أسمع عن هؤلاء العمالقة الفاتحين من قبل؟
ما أعجب أن أسمع عن بطولاتٍ وفتوحاتٍ في تاريخٍ لا يمثِّلُ لكثيرٍ من الناس إلا فترةً مظلمةً من تاريخِ المسلمين!
تبادر إلى ذهنه سؤال.. سرعان ما طرحه مستغلاً لحظة الصمت التي قلَّب فيها شيخه الصفحة:
لماذا العثمانيون خصوصًا؟
ألقى هذا السؤال متعجبًا.. وحُقَّ له أن يعجب!
فالمتصفّح للتاريخ يجد أن فترة الدولة العثمانية هي أكثر الفترات التي واجهت حملات وحملات من التشويه.. أو على الأقل من أكثر الفترات..
فلا تجد طالبًا في مدرسة إلا وقد لُقِّن وحُفِّظ مثالب الدولة العثمانية..
ولا تسأل مثقّفًا –زعم- عن رأيه في الدولة العثمانية إلا وتجد الامتعاض على وجهه، ثم يبدأ متفلسفًا في ذكر عيوبها..
أذكر أننا خُدعنا أيام الدراسة –ولعل ذلك كان في المرحلة الإعدادية- ودرَّسوا لنا أن من الانتقادات على مصطفى كامل أنه كان من المؤيدين لفكرة الجامعة الإسلامية التي دعا إليها السلطان العثماني عبد الحميد الثاني.. لاحظ أنه انتقاد..
فضلاً عن الاتهامات للدولة العثمانية بالتخلف والرجعية والجمود والانحطاط، وكيف أن الأمة الإسلامية ظلت في دياجير الظلم حتى جاء زعيم النهضة الحديثة محمد علي باشا (!).. وامتدت حركتُه متمثِّلةً في المقتدين به والسائرين على هداه في أرجاء العالم الإسلامي حتى أفاق العالم الإسلامي وانطلق في طريق النهضة (!)..
أكاذيب رُبِّي عليها الصغار حتى صارت اعتقادات راسخة.. قد لا تقبل أن تتزحزح.. فضلاً عن أن تهاجمَها وتبيِّنَ زيفها..
لماذا العثمانيون خصوصًا؟
رفع شيخه رأسه.. تنهَّد تنهيدةً طويلة..
يا بنيَّ.. قد تتعجب عندما تجد أن الطعن في الدولة العثمانية السُّنية منهج نهجه عدد كبير من المؤرخين والكتاب.. تنوَّعت مذاهبهم وطرائقهم..
اليهود والنصارى..
المؤرخون الأوربيون..
المؤرخون العرب سواء كانوا علمانيين أو قوميين..
وللأسف.. لم يسلم التاريخ العثماني حتى من عدد من الكُتَّاب الإسلاميين.. بل ومن الكُتَّاب السلفيين أيضًا.. للأسف..
حقيقة مُرَّة لابد من الاعتراف بها..
أعترف بها –أنا كاتب الموضوع- وأنا أنتسب إلى الكُتَّاب السلفيين..
ولا شكَّ أن أسباب الهجوم مختلفة.. وانتقادات كل منتقد تختلف عن تلك للآخر..
فهلا وقفنا مع كل فريق من المهاجمين للدولة العثمانية لنعرف الأسباب التي دفعته لذلك؟
فلنلْتقِ بالشيخ غداً..
اعتراف
أظنهم نجحوا في أن يجعلونا نجهل تاريخنا
0 التعليقات: