نبراس قِيَم
وأنت تقرأ كتاب الله –سبحانه وتعالى- تجد أن أول نداء لأهل الإيمان على ترتيب المصحف هو قوله تعالى في سورة البقرة: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم).
وذلك أن اليهود كانوا إذا نادوا النبي –صلى الله عليه وسلم- قالوا: راعنا، والتي يفهم منها السامع أنها من المراعاة، بينما كانوا يقولونها يورّون بالرعونة استهزاء وانتقاصًا من رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
وكان بعض المؤمنين إذا تكلم مع النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: راعنا، ويقصد بها المعنى الأول الحسن دون انتباه إلى مقصود اليهود في قولتهم، فنهى الله أهل الإيمان عن قول: راعنا، وأبدلهم بها (انظرنا) أي: انظر إلينا، ثم أمرهم –سبحانه- قائلاً: (واسمعوا) أي: سماع إجابة وامتثال لأوامر الله –سبحانه وتعالى-.
والمتأمل في هذا النهي الإلهي يجد أن امتثال هذا الأمر يرسّخ في نفوس أصحابه عددًا من القيم ذات الأثر الكبير في صناعة الأمم وسبقها وتقدمها:
- فمن هذه القيم: (الدقة):
فالنداء متعلق بأمر لساني، والنهي عن كلمة يُتلفظ بها وإن لم يُقصد بها المعنى القبيح الذي يورِّي به اليهود، فتتعلم الأمة –من ذلك- الدقة في كل شيء، فإن كانت الأمة مطالبة بالدقة فيما تتكلم به وفيما تخاطب بها قيادتها؛ فمن باب أولى أن تكون دقيقة في أفعالها ومعاملاتها وعلاقاتها واختياراتها.
- ومن هذه القيم: (التميز):
فالأمة يجب أن تكون متميزة عن غيرها، فإن كان اليهود يستخدمون تلك الكلمة؛ فلْتتميز هذه الأمة عنهم وإن كانت لا تقصد بهذه الكلمة المعنى القبيح الذي يقصده اليهود، ولتكن لهذه الأمة القائدة مصطلحاتها وألفاظها الخاصة البعيدة عن الشبهات تتميز بها وتعتز بها، وهذا أصل شرعي أصَّله رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في قوله: (من تشبه بقوم فهو منهم).
وقد بيَّن الله –سبحانه وتعالى- السبب في استخدام اليهود لهذه الكلمة وما شابه هذا -التصرف من أفعال أخرى من تصرفاتهم الخسيسة- في الآية التي تليها، فقال: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن يُنزّل عليكم من خير من ربكم)، فهم يكرهون أن ينزل هذا الخير وهذا الوحي والرسالة على النبي –صلى الله عليه وسلم-، ويحسدون المؤمنين على ما منَّ الله عليهم به.
- ومن هذه القيم (المحاسبة):
فالأمة التي تُحاسَب على لفظها وكلماتها، وينزل النداء الرباني يغيِّر ألفاظها ومصطلحاتها وإن لم يقصدوا بها سوءًا= حريٌّ بأفرادها أن يحاسبوا أنفسهم على أفعالهم؛ صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، وأن تكون المحاسبة قيمة أساسية في تعاملاتها، لا تفرق بين فعل وفعل، وبين شخص وشخص.
ثم أن يكون هذا النداء الإلهي هو أول نداء لأهل الإيمان في القرآن على ترتيب المصحف؛ وكأن فيه إشارة لقارئ القرآن أن هذا النداء هو الباب لما بعده من النداءات، وأن اللسان هو مفتاح أبواب الخير أو مغلاقها، كما ورد في حديث معاذ بن جبل –رضي الله عنه- عندما سأل النبي –صلى الله عليه وسلم- عن عمل يدخله الجنة ويباعده عن النار، فأجابه ثم زاده من الخير فدله على أبواب الخير، وذكر له رأس الأمر وعمود وذروة سنامه، ثم قال له: (ألا أخبرك بمِلاك ذلك كله؟)، فقال معاذ: بلى يا رسول الله! فأمسك النبي –صلى الله عليه وسلم- بلسانه وقال: (أملك عليك هذا)، فقال معاذ: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال له النبي –صلى الله عليه وسلم-: (ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلى حصائد ألسنتهم؟!).
(يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا) نبراس قِيَمٍ تصنع أمة!
[جريدة الفتح - عدد 93 - 19-7-2013]
0 التعليقات: